الابداع الايماني في أدبنا المعاصر

عن الدار العالمية بمصر المحروسة: كتاب في طريقه الى الصدور إن شاء الله

رؤية تحليلية لاسهام باكثير

د. محمد أمين توفيق

هذا الكتاب:

يضم كتابي هذا بين دفتيه رؤية تحليلية لاسهام يكاد يكون فريدا من نوعه في أدبنا واعلامنا خلال القرن العشرين قدمه رواية ودراماً خالد الذكر الاندنويسي مولدا والمصري جنسية علي أحمد باكثير(1910-1961)…

هذا الاسهام المتميز هو ماأسميه : الالتزام الايماني برسالة السماء في كتابة الرواية والمسرحية والملحمة وماانبثق من هذه الاجناس من عطاء فني يشهد به التلفاز والمسرح كما تشهد به السينما..

هذا الالتزام الايماني برسالة السماء يتبدى للقارىء الكريم في ثنايا أبواب هذا الكتاب وفصوله بدءا بالتأثير ا الكامن في القصة القرآنية ومرورا بالانعكاسات الاجتماعية مصرية كانت أم عربية أم اسلامية على مختارات روائية ومسرحية وملحمية لكاتبنا وانتهاءً بمقارنات عقدناها بينه وبين بعض معاصريه من كبار الكتاب وهي مقارنات وان كنت قد ادليت دلوي في تقييمها الا انني أدع لقارئي مهمة الحكم عليها ان شاء الله.

ان هذا الكتاب يقدم للمكتبة العربية جانبا ينبغي للدراسات العربية والعالمية الاهتمام به فهو لايظفر عربيا بما يستحقه من بحوث تستخرج كنوزه من نماذج كاتبة أخرى كما أنه عالميا لم نجد كبير

اشتغال به بين باحثينا وطلابنا في جامعات غربية حسبما لمست بنفسي ومشاركتي في كندا وبريطانيا في جامعات ماكجيل ووستمنستر وروهامبتن..

ان أجمل مايقدمه هذا الالتزام الايماني في قالب روائي أو درامي القيمَ السماوية الرفيعة التي تعين الانسان في بناء مجتمعه وتدفع عنه مايهدد هذا المجتمع من مخاطر وتصور له كيف يحيا هانئا مع أسرته وبني جلدته..

من هو باكثير؟

ولد في اندونيسيا في عام 1910 ومالبثت أن تنقلت به أسرته بين حضرموت في اليمن والسعودية وعندما بلغ من العمر أربعا وعشرين سنة شد الرحال الى مصر حيث التحق فيها بكلية الآداب جامعة القاهرة قسم الادب الانجليزي وكان تخرجه منها في عام 1939

وبعد فترة من العمل التدريسي يتم تعيينه في القاهرة قسم الادب وزارة الثقافة والارشاد القومي المصرية حيث تدرج في مناصبها الى أن بلغ مرتبة الرقيب على المصنفات الفنية ..كما منحته الدولة جنسيته المصرية التي أعطته حق الاقامة في مصر حتى وفاته رحمه الله في عام 1969

وخلال نحو ثلاثة عقود فقط كان عطاؤه الفني غزيرا اذ انه ألف تسعا وثلاثين مسرحية وخمس روايات وملحمة ضخمة تقع في ثمانية عشر مجلدا فضلا عن كتاب في كيفية الكتابةالمسرحية ومقالات وأشعار عديدة .. ويعزى اليه فضل أنه كان أول من جرب كتابة الشعر الحر

في مصر الى جانب صلاح عبدالصبور( 1931-1981)

باكثير والالتزام الايماني

باكثيرهو فريد عصره في الابداع الادبي والفني القائم على ركائز ايمانية ذلكم أن منطلقه في الكتابة المسرحية والملحمية والروائية كان معالجة السلوك البشري في المجتمع العربي والاسلامي وتبيان مدى بعده أوقربه من الدين كمنهج للحياة اليومية..وهو يبسط هذا المنطلق بسطا حثيثا في أعماله تاركا للقارىء مهمة استقراء هذا النسق الايماني واستنتاج مزايا التمسك به من أجل بناء فرد صالح يعيش في مجتمع فاضل صامد أمام اي انحراف ومصحح لمساره في حالات الزلل والانكسار.

ان هذا المفهوم الالتزامي يتبد ى في كل رواياته التي نحلل مضامينها هنا لكن تتويجه وذروة سنامه تظهر فاعلة ومؤثرةفي ملحمته :عمر بن الخطاب التي سوف نتناولها بشىء من التفصيل في مكانها بهذاالكتاب ان شاء الله.

ان خيوط هذا المفهوم تتجمع عند استيعابنا لكتاباته لتقول لنا مايلي:

– الانسان ولد حرا مكرما من خالقه سبحانه وعليه وعلى مجتمعه الحرص على العيش الحرالذي لايرضى بالاستعماروالاستبداد مستمدا العون من الله مع استعداد ذاتي للنضال لتحقيق هذا المطلب ان هوحرم منه.

– بعكس ماتوحي به التراجيديات الاغريقية من تضاد بين الانسان والقوة الالهية فانه لاصراع بينه في الدين وبين الخالق سبحانه الذي يتكفل بنصره ويشد من أزره ويهبه طاقة روحية تكون مددا لطاقته المادية .

-ان الانسان في مسعاه لبناء طاقته المادية لمواجهة الهزات الاجتماعية وغيرها يجد في القيم الروحية وقصص الامم والشخصيات السابقة العبر ليفيد منها.

-من هنا اعتمد باكثيرالركائز الثلاث آنفة الذكر منهجا لابداعاته فالانسان عنده ناعم بالحرية التي ولد بها وهوفي سبيل حفاظه عليها ينال من خالقه طاقة روحية دافعة ، ومن خلال الاسوة الحسنة يمكنه الافادة من دروس القصص الايماني.

باكثير والقصة القرآنية

اعتماد باكثير علي القصص القرآني كان اعتمادا كبيرا الى حد أنه جعل لمعظم رواياته شعارات من آيات القرآن الكريم ترهص بموضوع كل رواية أو تبشر بما تؤول اليه أحداثها

ولرصد مدى هذا الاعتماد وفي اطارالحيز المحدودلهذا الكتاب فانني اخترت سورة أهل الكهف التي تضم قصص الكهف ، والجنة، وموسى وذي القرنين للتدليل على ذلك.

لكن تحليلنا لتاثر باكثير بهذا القصص لابد أن تسبقه

دراسة للمنهج القرآني في سرد النص القصصي المذكور من حيث بناء القصة وحبكتها ومدلولها المحوري.

ولنبدأ لقصة أهل الكهف التي تصف حال عدد من الشباب المؤمن بربه وقد اتخذ من كهف سترا يلجأ اليه بعيدا عن مطاردة المخالفين لعقيدته.

واذ اصابهم التعب الشديد، هم وكلبهم، فانهم ينامون

وتقضي حكمة الله الا يفيقوا من نومهم هذا الابعد مرور عقود من الزمان تغيرت خلالها عقيدة أبناء المخالفين وأحفادهم بحيث أصبحوا من المؤمنين بالله على شاكلتهم.

ولقد حظي نومهم الطويل برعاية الهية فالشمس في اشراقها وفي غيابها بمنأى عنهم حتى لايمكن لاحد أن يراهم وهم في ظلمة الكهف كما ان اجسامهم منحت حرية التقلب يمنة ويسرة حتى لاتصاب بالبلى أما كلبهم فقد افترش تراب الكهف مادا ذراعيه أمامه..وعلى كل حال كان لمنامهم رهبة كفيلة بابقاء أعدائهم بعيدا عنهم.

ويستيقظ هؤلاء الشباب وقد فهموا انهم ناموا يوما أو بعض يوم فحسب واذ أحسوا بالجوع فانهم يرسلون واحدا منهم الى السوق ليشترى لهم طعاما وقد نصحوه بالحذر عند عودته الى الكهف حتى لايكتشف أمرهم الرقباء غير انه لم يدرفي خلدهم ان الزمان هو غير الزمان وان العملة المالية التي كانت بيد صاحبهم في السوق كانت عملة عفاعليها الزمن..ومن ثم جرى تتبعه بعد رفض عملته..الى الكهف وهنا تشاء حكمته سبحانه ان يميتهم وان يكرم اناس ذلك الزمان نهايتهم بان يبنوا على مكانهم مسجدا بعد أن فطنوا الى تمسكهم بايمانهم وهو ايمان رعاهم ا لله بسببه وجعل قصتهم مثالا يحكي في كل زمان.

في هذه القصة القرآنية تكاد تتساوى أدوار شخصيات أهل الكهف ثمة بطل متميز فالبطل الحقيقي هنا هو الفكرة الاساس وهي نصر الله لمن نصره وأن للحرية عقيدة وحياة ثمنا غاليا يدفعه الراغب في التحرر..كما حدث لهؤلاء الذين أثروا الانزواء بعيدا عمن خالفوهم في عقيدتهم وناصبوهم العداء!

أهل الكهف اذن متساوون في قصتهم بمن في ذلك من ارسلوه الي المدينة ليشتري لهم الطعام!

غير ان حبكة القصة قوية..تشدك اليها شدا بفضل العوامل الفنية التالية:

السرد الجامع المانع الذي ينقلك من صورة ذهنية الي صورة أخرى

الجمل مسجوعة النهايات التي تستهوي القارىء لها أو المستمع اليها

كتمان عددهم وايضا عدد السنين التي لبثوها نياما في كهفهم مما يشيع عنصر التشويق

الاختصار في تفاصيل الاحداث لايؤثر على الحبكة بل هو يزيدها متانة وترابطا

تسخير الشمس سترا لمكانهم والحركة حفظا لابدانهم وهذا يضفي الاحساس بالظفر بمدد علوي قاهر

لقد نزلت هذه القصة لتسري عن النبي الذي أحزنه تقاعس المشركين عن تقيل الدعوة الى الله

كما انها تدعم نبوته وتشرح للمعاندين على نحو غير مباشر تلك التساؤلات التي صدرت عنهم

مثل احياء الموتي وميعاد الساعة والعلم باخبار الاولين.. تدليلا على القدرة الالهية

ان هذه القصة فوق انها تحكي لنا الماضي فانها في الوقت نفسه تعبر عن المستقبل..فبناء المسجد اشارة الى ماينتظر الانسان المتمسك بعقيدته من خير يجده في دنياه قبل أخراهأما من يتنكب طريق الهداية فمأله في دنياه أن يحدث له ماوقع في القصة التالية من قصص القرآن الكريم.

قصة الروضتين

هذه القصة االتي تتلو في ترتيبها قصة الكهف تحكي ماحدث لرجل يمتلك روضتين فيهما فواكه كثيرةوزروع وقد حف بهما نخل وعندما كان هو وصديق له في طريقهما الى الروضتين افتخر بهما ايما افتخار قائلا لصاحبه انهما ستظلان هكذا الى الابد وهو لايعترف بالساعة والبعث وقد وبخه الصاحب محذرا اياه بان مانطق به كفيل بان يستدر نقمة الله عليه وعلى روضتيه .. وهكذا فان النقمة حلت بالفعل ووقع التدمير سريعا وحاسما تلخصه العبارة القرآنية: وأحيط بثمره..!

ومن الملاحظ هنا أن صاحبه يضطلع بدور المحذر من سوء العاقبة.. واما راوي الحدث فهو مثلما لمسنا في قصة الكهف هو رب العزة والجلال..الصمد ذو القول الحق..

وفي القصة التالية سوف نرى كيف قام عبد من عباد الله آتاه الله علما منه وحكمة بدورفي الراوية:

قصة الخضر وموسى

تمهد الرواية هنا للحدث المهم ألا وهو اللقاء الذي تم بين موسى عليه السلام وبين الخضر الذي آتاه الله من العلم اللدني مالم يكن موسى النبي قد أوتاه.. فنعلم من التمهيد كبف أن موسى عليه السلام اشترط على خادمه أن يجدا في السير الى أن يبلغا مجمع البحرين وعندما بلغا صخرة مطلة على البحر..طلب منه أن يعد لطعامهما سمكة كبيرةكان قد دفع بها اليه لكن الخادم عاد ليبلغه بان السمكة عادت اليها الحياة وقفزت الى البحر تشق طريقها فيه على نحو يدعو الى العجب.. وهنا أدرك موسى أن ماكان يريده سوف يتم في منطقة هروب السمكة.. وهناك يلتقي برجل صالح طلب منه موسى أن يصاحبه في رحلته..ويوافق الرجل شريطة ألا يسأله موسى عن أسباب الامور التي يفعلها فيوافق…

لكن أمور الرجل الصالح لم تكن مما يرضي موسى الذي يتوخى الاصلاح ..اذ هو نبي وصاحب رسالة..

فالرجل يخرق سفينة حتى تجنح الى الشاطىء ثم هو يقتل غلاما وفي كلتا الحادثتين يعتذر موسى للخضر لآنه أخل بشرط التعاقد معه .. وعندما بنى الرجل الصالح جدارا لقوم أبوا أن يضيفوهما وتعجب موسى من صنيعه أنهى الخضر التعاقد اخذ يشرح أسباب ماأقدم عليه فاغراق السفينة كان من أجل ألا يستولي عليها ملك كان ياخذ كل سفينة صالحة للابحار غصبا..

فإغراق السفينة كان لان الحق تبارك وتعالى شاء أن يتمكن أصحابها الفقراء من اصلاحها والاستفادة منها بعد انصراف الغاصب عنها ! وأما قتل الغلام فكان لعقوقه والديه والاساءة لهما

حيث يشاء الله انه سيرزقهما مستقبلا ولدا صالحا يبرهما!واما اقامة الجدار فكان لحكمة أن يظل حارسا لكنز سوف يكتشفه ورثٌة أطفال عندما يشتد عودهم!

حبكة هذه القصة اكتسبت متانتها بسبب التفاعل الوثيق بين شخصيتي الخضر وموسى وجرى توظيف الحوار توظيفا رائعا لابراز التناقض بين عالمي الحقيقةوالغيب..وهو تناقض مايلبث عندما نتبين نتيجة أعمال الخضر ودوافعها أن يتحول الى انسجام بين العالمين في نهاية القصة.

وعلى عكس المكان الواحد الذي نجده في قصة الروضتين تتعدد أمكنة هذه القصة فانت تتنقل بين شاطىء البحر الى السفينة التي أغرقها الخضر الى الغلام الذي أجهز عليه الي بناء الجدار ورفض أهل البلدة هناك أن يضيفوهما!

أما الفكرة المحورية هنا فهي أن الانسان في عالم الشهادة هذا يستطيع فقط أن يحكم أو يتفهم ظواهر الآشياء لكنه ليس بوسعه أن يسبر أغوارها ليعرف بواطنها اذ ان الغيب محجوب عنه ..

على أن القصة القرأنية التالية تضيف الى هذه الفكرة المحورية بعدا آخر ألا وهي أن الانسان مخير فيما يفعله لكن عليه الاجتهاد في فعل الخيرات من أجل اسعاد الناس من حوله وهو إن فعل ذلك سيكون هذا الاجتهاد في ميزان حسناته ، وعلى من تصيبهم هذه الخيرات أن يحمدوا الله ويشكروه عليها وألا يصيبهم البطروينجرفوا الى حد الظن ان ماأصابوه من خير باق خالد ..بل عليهم أن يعلموا أن ذلك بيد الله فان شاء أبقى هذه النعم وان شاء أزالها!

وتطبيقا على هذه الفكرة فان ذا القرنين آتاه الله الحكمة والثروة والنفوذ جميعاً واذ كان باستطاعته أن يسوح في الارض من غربها الى شرقها دون أن يوقفه أحد فانه يبدأ بقوم يامره الله بان يحكم بينهم فاما أن يعاقبهم ان هم أخطاوا واما ان يحسن اليهم إن هم أحسنوا..

واذ يواصل رحلته شرقا فانه يجد قوما تشتد عليهم حرارة الشمس لكنهم من الفقر بحيث لايستطيعون حماية أنفسهم من شواظها ..ولئن سكتت الرواية عند هذا الحد الا أنها تترك لنا الاستنتاج أنه بنى لهم مساكن تقيهم القيظ وتؤمن لهم حياتهم اليومية..

وفي أخر مراحل رحلته شرقا وصل الى قوم لايعرفون لغته لكنه ربما بالاشارة أدرك حاجتهم الى سد يصل بين جبلين يوصد الباب أمام أعدائهم يأجوج ومأجوج الذين دأبوا على مهاجمتهم بين الفينة والفينة وهكذا فانه بالهام من الله صهر االحديد وجعله يسد الفجوة بين الجبلين ثم أفرغ عماله على الحديد المنصهر قطرا لعله من النحاس وهذا ماجعل بناء السد من القوة بحيث حمى القوم من أعدائهم الذين لم يستطيعوا نقبه للدخول منه كما أعجزتهم قوة هذا السد عن أن يعودوا الى الهجوم على القوم.

ومن بعد هذاالنصر العظيم لم ينس ذو القرنين أن يذكر القوم بالا يغرهم بالله الغرور والا فان هذا السد برغم قوة بنائه يمكن ان يصير أثرا بعد عين !

والآن وبعد استعراض القصص الثلاث، لابد لنا من ربط مغزاها بزمن نزولها ومكانه أعني النصف االاول من القرن السابع الميلادي أي في الوقت الذي لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم قد هاجر فيه من مكة الى المدينة..وحيث كان كفار قريش مايزالون على غطرستهم ومعاداتهم للدعوة الى الله الواحد الاحد..وقد هرع النبي صلوات الله وسلامه عليه الى ربه في نجواه مثلما فعل في الطائف بعدما أدمى صبية المشركين قدميه بالحجارة حيث شكا الى مولاه ضعفه وقوةحيلته فكان أن بعث الله في نفسه الطمأنينة بان انزل عليه وحيا هذا القصص القرآني تدليلا

على أن النصر قادم لامحالة وأن بعد العسر يسرا كما أن فيها النذير للكافرين حتى لايغتروا بقوتهم التي هي زائلة في نهاية المطاف..كما أن عليهم أن يحذروا غضب الله ونقمته كما حدث لصاحب الروضتين ..وان ياخذوا العبرة من شخص ذي القرنين الذي آتاه الله الملك والحكمة لكنه التزم بالعدل الالهي ..وحذر المنعم عليهم من باس الله ان هم اصابهم التنكر للخالق المنعم..

والمتأمل لمغزى هذا القصص القرآني يلمس ارتباط القرآن بالزمن..أي زمن..وتفاعله مجددا بالاحداث برغم تتالي السنين والقرون..فالعبرة فيه خالدة ويمكن للانسان أن يستخلصها منه لمجابهة مايكتنفه من أحداث قد يحس بالعجز ازاءها لكن روح الايمان بقدرة السماء عندما يتلو هذا القصص تمده بما يكفل له طمانينة النفس بانه في المعية الالهية التي لن تغفل عنه وان طال زمن عجزه..!

واستطرادا من القصص الثلاث الى المفهوم القصصي القرآني فأنت تجد عجبا ..فبعض القصص تقرأه بتمهيد لاحداث القصة مثلما هو الحال في قصة الكهف وبعضها الآخر دون تمهيد مثل قصة الهدهد مع سليمان عليه السلام .. وأنت تمسك أنفاسك في بداية قصة الخضر وموسى عليه السلام الى أن تتنفس الصعداء في نهايتها عندما يفسر الخضر للنبي موسى ماخفي عنه من غيبيات!

نفس وقع مفاجاة القصة القرآني او عنصر التشويق تجده في بداية قصة الهدهد آنفة الذكرونهايتها عندما نكتشف مع ملكة سبا: بلقيس كيف تم نقل عرشها من اليمن الى الشام حيث كان سليمان عليه السلام في غمضة عين بقدرة الخالق سبحانه..!

هنا يتبدى لنا معنى الالتزام في مفهومه القرآني ..فهو ليس بالالتزام المكيافيللي الذي ينتج عن سبب وانما هو التزام تفاعلي يرهص بالحدث وهو ليس يالالتزام الذي ينجم عن فضل للانسان على نفسه ومجتمعه فحسب وانما هو الالتزام المسنود بعناية من السماء وهو من ثم الالتزام الكامل الذي لايعتوره نقص ..الالتزام المتجدد الذي لايحده مذهب انساني ولاتختص به طائفة دون طائفة وباختصار هو التزام ينبع من ايمان المرء بضرورة الاسهام البناء في مجتمعه مسنودا من بارئه جل وعلا.

ماسبق يفضي بنا الى التساؤل من جديد عن الاسباب المؤثرة في قصص باكثير السابقة

وهنا تاتي الاجابة الجلية وهي اعتماد باكثيرا أولا في مفاهيمه على القرآن الكريم

فمفهوم العفة في قصة سلامة القس يستقيه من سورة يوسف عليه السلام..أضف الى ذلك

استعانة الكاتب بتعبيرات القرآن الكريم في هذا الجانب وهذا ماأكسب سرده القصصي أناقة اللفظ

وجذالة في السياق اللغوي.

على أن هناك سببا مؤثرا آخر ألا وهو كتاب الاغاني لابي الفرج الاصفهاني الذي حفل بتفاصيل قصة سلامة وحبيبها عبد الرحمن ابن أبي عمار القس

وهكذا فان باكثير يعتمد على هذا الكتاب في الابيات الشعرية التي نطق بها بطل قصته

كما يعتمد عليه في حكاية الحبيبين لكن مايمتاز به وصف باكثير لشخصيهما هو انه يمدنا بجوانب لهما تزيد عن التسطيح التاريخي أي ذي الوجه الواحد الوارد في كتاب الآغاني

على أن الكاتب يعمد في جانب التكنيك القصصي الى الغرب ليجاريه فهاهو ذا يستعمل مايسمى فن التضاد والمغايرة في بناء الشخصيات فالقس مثلا الذي يؤلف في مرحلة من المراحل

أغاني سلامة ليس مباركا تماما لمشاركتها في الغناء

من جهة أخرى فان اخلاص البطلة لحبيبها القس يقابله انهماكها الشديد في الغناء وحرصها على الظفر باعجاب المعجبين بفنها وعلى رأسهم سيدها ابن سهيل!

أما ابن سهيل الذي اشتهر بكونه تهديدا لاخلاق أهل مكة لكونه على رأس مشجعي الغناء

هناك فانه اشتهر أيضا بكثرة تصدقه على الفقراء والمعوزين!

وقد أسهم استخدام هذا التكنيك الغربي في امتاعنا بالحبكة الباكثيرية مماجعل قراءة هذه القصة أمرا ممتعا.

واإسلاماه

وجه الشبه بين هذه القصة وبين سلامة هي أنها مثلها تغترف من ينبوع التاريخ الاسلامي

ذلكم أن الكاتب يعتمد على كتاب المقريزي: كتاب السلوك 6 في أحداث هذه القصة..حيث نعلم من بين هذه الاحداث كيف أن سيف الدين قطز وهو ثالث حكام مصر من المماليك كان اسمه الاصلي هو محمود بن ممدود..وأن عمه كان هوالسلطان جلال الدين خوارزم شاه.. وعندما هزم المغول جلال الدين تم حمل قطز الى دمشق ومن ثم الى القاهرة.